فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ} أي الرشدَ اللائقَ به وبأمثاله من الرسل الكبارِ وهو الاهتداءُ الكاملُ المستند إلى الهداية الخاصةِ الحاصلةِ بالوحي والاقتدار على إصلاح الأمةِ باستعمال النواميسِ الإلهية، وقرئ رَشَدَه وهما لغتان كالحُزْن والحَزَن {مِن قَبْلُ} أي من قبل إيتاءِ موسى وهارونَ التوراةَ، وتقديمُ ذكر إيتائها لما بينه وبين إنزال القرآن من الشبه التامّ، وقيل: من قبل استنبائِه أو قبلَ بلوغِه ويأباه المقام {وَكُنَّا بِهِ عالمين} أي بأنه أهلٌ لما آتيناه وفيه من الدليل على أنه تعالى عالمٌ بالجزئيات مختارٌ في أفعاله ما لا يخفى.
{إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ} ظرفٌ لآتينا على أنه وقت متّسعٌ وقع فيه الإيتاءُ وما ترتب عليه من أفعاله وأقواله، وقيل: مفعولٌ لمضمر مستأنَفٍ وقع تعليلًا لما قبله أي اذكر وقتَ قوله لهم: {مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عاكفون} لتقف على كمال رشدِه وغايةِ فضله، والتِمثالُ اسمٌ لشيء مصنوعٍ مشبَّهٍ بخلق من خلائق الله تعالى وهذا تجاهلٌ منه عليه السلام حيث سألهم عن أصنامهم بغير التي يُطلب بها بيانُ الحقيقة، أو شرحُ الاسم كأنه لا يعرف أنها ماذا مع إحاطته بأن حقيقتها حجرٌ أو شجرٌ اتخذوها معبودًا، وعبّر عن عبادتهم لها بمطلق العكُوف الذي هو عبارةٌ عن اللزوم والاستمرار على الشير لغرض من الأغراض قصدًا إلى تحقيرها وإذلالها وتوبيخًا لهم على إجلالها، واللام في {لها} للاختصاص دون التعديةِ وإلا لجيء بكلمة على، والمعنى أنتم فاعلون العكوفَ لها، وقد جُوّز تضمينُ العكوف معنى العبادة كما ينبىء عنه قوله تعالى: {قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عابدين} أجابوا بذلك لما أن مآلَ سؤاله عليه السلام الاستفسارُ عن سبب عبادتِهم لها كما ينبىء عنه وصفه عليه السلام إياهم بالعكوف لها، كأنه قال: ما هي؟ هل تستحق ما تصنعون من العكوف عليها؟ فلما لم يكن لهم ملجأٌ يعتدّ به التجأوا إلى التقليد فأبطله عليه السلام على طريقة التوكيد القسمي حيث {قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ} الذين سنّوا لكم هذه السنةَ الباطلة {فِى ضلال} عجيبٍ لا يقادَر قدرُه {مُّبِينٌ} أي ظاهر بيّن بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء كونُه كذلك، ومعنى كنتم مطلقُ استقرارِهم على الضلال لا استقرارُهم الماضي الحاصلِ قبل زمانِ الخطاب المتناولِ لهم ولآبائهم، أي والله لقد كنتم مستقرين على ضلال عظيم ظاهرٍ لعدم استنادِه إلى دليل ما، والتقليدُ إنما يجوز فيما يحتمل الحقية في الجملة. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ} أي الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل الكبار وهو الرشد الكامل أعني الاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا والإرشاد بالنواميس الإلهية؛ وقيل الصحف، وقيل: الحكمة، وقيل: التوفيق للخير صغيرًا، واختار بعضهم التعميم.
وقرأ عيسى الثقفي {رُشْدَهُ} بفتح الراء والشين وهما لغة كالحزن والحزن {مِن قَبْلُ} أي من قبل موسى وهارون، وقيل من قبل البلوغ حين خرج من السرب، وقيل من قبل أن يولد حين كان في صلب آدم عليه السلام، وقيل من قبل محمد صلى الله عليه وسلم والأول مروي عن ابن عباس.
وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قال في الكشف: وهو الوجه الأوفق لفظًا ومعنى، أما الأول فللقرب، وأما الثاني فلأن ذكر الأنبياء عليهم السلام للتأسي فقد ذكر موسى عليه السلام لأن حاله وما قاساه من قومه وكثرة آياته وتكاثف أمته أشبه بحال نبينا عليه الصلاة والسلام ثم ثنى بذكر إبراهيم عليه السلام، وقيل: {مِن قَبْلُ} لهذا ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نادى مِن قَبْلُ} [الأنبياء: 76] أي من قبل هؤلاء المذكورين، وقيل من قبل إبراهيم ولوط اهـ {وَكُنَّا بِهِ عالمين} أي بأحواله وما فيه من الكمالات، وهذا كقولك في خير من الناس: أنا عالم بفلان فإنه من الاحتواء على محاسن الأوصاف بمنزل.
وجوز أن يكون هذا كناية عن حفظه تعالى إياه وعدم إضاعته، وقد قال عليه السلام يوم إلقائه في النار وقول جبريل عليه السلام له سل ربك: علمه بحالي يغني عن سؤالي وهو خلاف الظاهر {إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ} ظرف لـ: {آتينا} [الأنبياء: 51] على أنه وقت متسع وقع فيه الإيتاء وما يترتب عليه من أقواله وأفعاله، وجوز أن يكون ظرفًا لرشد أو لعالمين، وأن يكون بدلًا من موضع {مِن قَبْلُ} [الأنبياء: 51] وأن ينتصب بإضمار أعني أو اذكر، وبدأ بذكر الأب لأنه كان الأهم عنده عليه السلام في النصيحة والانقاذ من الضلال.
والظاهر أنه عليه السلام قال له ولقومه مجتمعين: {مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عاكفون} أراد عليه السلام ما هذه الأصنام إلا إنه عبر عنها بالتماثيل تحقيرًا لشأنها فإن التمثال الصورة المصنوعة مشبهة بمخلوق من مخلوقات الله تعالى من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به، وكانت على ما قيل صور الرجال يعتقدون فيهم وقد انقرضوا، وقيل كانت صور الكواكب صنعوها حسبما تخيلوا، وفي الإشارة إليها بما يشار به القريب إشارة إلى التحقير أيضًا، والسؤال عنها بما التي يطلب بها بيان الحقيقة أو شرح الاسم من باب تجاهل العارف كأنه لا يعرف أنها ماذا وإلا فهو عليه السلام محيط بأن حقيقتها حجر أو نحوه، والعكوف الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له، وقيل اللزوم والاستمرار على الشيء لغرض من الأغراض وهو على التفسيرين دون العبادة ففي اختياره عليها إيماء إلى تفظيع شأن العبادة غاية التفظيع، واللام في {لَهَا} للبيان فهي متعلقة بمحذوف كما في قوله تعالى: {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] أو للتعليل فهي متعلقة بعاكفون وليست للتعدية لأن عكف إنما يتعدى بعلى كما في قوله تعالى: {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ} [الأعراف: 138] وقد نزل الوصف هنا منزلة اللازم أي التي أنتم لها فاعلون العكوف.
واستظهر أبو حيان كونها للتعليل وصلة {عاكفون} محذوفة أي عاكفون على عبادتها، ويجوز أن تكون اللام بمعنى على كما قيل ذلك في قوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الاسراء: 7] وتتعلق حينئذ بعاكفون على أنها للتعدية.
وجوز أن يؤول العكوف بالعبادة فاللام حينئذ كما قيل دعامة لا معدية لتعديه بنفسه ورجح هذا الوجه بما بعد، وقيل لا يبعد أن تكون اللام للاختصاص والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرًا و{عاكفون} خبر بعد خبر، وأنت تعلم أن نفي بعده مكابرة.
ومن الناس من لم يرتض تأويل العكوف بالعبادة لما أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن على كرم الله تعالى وجهه أنه مر على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون لأن يمس أحدكم جمرًا حتى يطفى خير له من أن يمسها. وفيه نظر لا يخفى، نعم لا يبعد أن يكون الأولى إبقاء العكوف على ظاهره، ومع ذلك المقصود بالذات الاستفسار عن سبب العبادة والتوبيخ عليها بالطف أسلوب ولما لم يجدوا ما يعول عليه في أمرها التجؤا إلى التشبث بحشيش التقليد المحض حيث {قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عابدين}.
وأبطل عليه السلام ذلك على طريقة التوكيد القسمي حيث {قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ} الذين وجدتموهم كذلك {فِى ضلال} عجيب لا يقادر قدره {مُّبِينٌ} ظاهر بين بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء كونه ضلالًا لاستنادكم وأياهم إلى غير دليل بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع، و{أَنتُمْ} تأكيد للضمير المتصل في {كُنتُمْ} ولابد منه عند البصريين لجواز العطف على مثل هذا الضمير، ومعنى كنتم في ضلال مطلق استقرارهم وتمكنهم فيه لا استقرارهم الماضي الحاصل قبل زمان الخطاب المتناول لهم ولآبائهم، وفي اختيار {فِى ضلال} على ضالين ما لا يخفى من المبالغة في ضلالهم، وفي الآية دليل على أن الباطل لا يصير حقًّا بكثرة المتمسكين به. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ} أي: هدايته للحق وهو التوحيد الخالص: {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل موسى وهارون: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} أي: علمنا أنه أهل لما آتيناه. أو علمنا أنه جامع لمكارم الأخلاق التي آتيناه إياها، فأهّلناه لخلتنا وأخلصناه لاصطفائنا.
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} أي: ما هذه الصور الحقيرة التي عكفتم على عبادتها. استفهام تحقير لها وتوبيخ على العكوف على عبادتها، بأنها تماثيل صور بلا روح، مصنوعة لا تضر ولا تنفع، فكيف تعبد؟.
{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} أي: فقلدناهم وتأسينا بهم {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي: لا يخفى على عاقل لعدم استناد الفريقين إلى دليل، بل إلى هوى متََّبَع وشيطان مطاع. وفي الإتيان بفي الظرفية دلالة على تمكنهم في ضلالهم، وأنه ضلال قديم موروث. فهو أبلغ من ضالين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)}.
أعقبت قصة موسى وهارون بقصة إبراهيم فيما أوحي إليه من مقاومة الشرك ووضوح الحجة على بطلانه، لأن إبراهيم كان هو المَثَل الأول قبل مجيء الإسلام في مقاومة الشرك إذ قاومه بالحجة وبالقوة وبإعلان التوحيد إذْ أقام للتوحيد هيكلًا بمكة هو الكعبة وبجَبل نابو من بلاد الَكِنعانيين حيث كانت مدينةٌ تسمى يومئذ لوزا ثم بنى بيت ايل بالقرب من موضع مدينة أورشليم في المكان الذي أقيم به هيكل سليمان من بعد، فكانت قصة إبراهيم مع قومه شاهدًا على بطلان الشرك الذي كان مماثلًا لحال المشركين بمكة الذين جاء محمد صلى الله عليه وسلم لقطع دابره.
وفي ذكر قصة إبراهيم تورك على المشركين من أهل مكة إذ كانوا على الحالة التي نعاها جدُّهم إبراهيم على قومه، وكفى بذلك حجة عليهم.
وأيضًا فإن شريعة إبراهيم أشهر شريعة بعد شريعة موسى.
وتأكيد الخبر عنه بلام القَسم للوجه الذي بيناه آنفًا في تأكيد الخبر عن موسى وهارون، وهو تنزيل العرب في مخالفتهم لشريعة أبيهم إبراهيم منزلة المنكر لكون إبراهيم أوتي رشدًا وهديًا.
وكذلك الإخبار عن إيتاء الرشد إبراهيم بإسناد الإيتاء إلى ضمير الجلالة لمثل ما قرّر في قصة موسى وهارون للتنبيه على تفخيم ذلك الرشد الذي أوتيه.
والرشد: الهدى والرأي الحق، وضده الغي، وتقدم في قوله تعالى: {قد تبين الرشد من الغي} في [سورة البقرة: 256].
وإضافة {الرشد} إلى ضمير إبراهيم من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي الرشد الذي أرْشِده.
وفائدة الإضافة هنا التنبيه على عظم شأن هذا الرشد، أي رشدًا يليق به؛ ولأن رشد إبراهيم قد كان مضرب الأمثال بين العرب وغيرهم، أي هو الذي علمتم سمعته التي طبقت الخَافقين فما ظنكم برشد أوتيه من جانب الله تعالى، فإن الإضافة لما كانت على معنى اللام كانت مفيدة للاختصاص فكأنه انفرد به.
وفيه إيماء إلى أن إبراهيم كان قد انفرد بالهدى بين قومه.
وزاده تنويهًا وتفخيمًا تذييله بالجملة المعترضة قوله تعالى: {وكنا به عالمين} أي آتيناه رشدًا عظيمًا على عِلم منا بإبراهيم، أي بكونه أهلًا لذلك الرشد، وهذا العلم الإلهي متعلق بالنفسية العظيمة التي كان بها محل ثناء الله تعالى عليه في مواضع كثيرة من قرآنه، أي علم من سريرته صفات قد رَضيها وأحمدَهَا فاستأهل بها اتخاذه خليلًا.
وهذا كقوله تعالى: {ولقد اخترناهم على علم على العالمين} [الدخان: 32] وقوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124].
وقوله: {من قبل} أي من قبل أن نوتي موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرًا.
ووجه ذكر هذه القبلية التنبيه على أنه ما وقع إيتاء الذكر موسى وهارون إلا لأن شريعتهما لم تزل معروفة مدروسة.
و{إذ قال} ظرف لفِعل {آتينَا} أي كان إيتاؤه الرشد حينَ قال لأبيه وقومه: {ما هذه التماثيل} الخ، فذلك هو الرشد الذي أوتيه، أي حينَ نزول الوحي إليه بالدَعوة إلى توحيد الله تعالى، فذلك أول ما بُدىء به من الوحي.
وقوم إبراهيم كانوا من الكَلدان وكان يسكن بلدًا يقال له كوثى بمثلثة في آخره بعدها ألف.
وهي المسماة في التوراة أور الكلدان، ويقال: أيضًا إنها أورفة في الرها، ثم سكن هو وأبوه وأهله حاران وحاران هي حرّان، وكانت بعد من بلاد الكلدان كما هو مقتضى الإصحاح 12 من التكوين لقوله فيه: اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك.
ومات أبوه في حاران كما في الإصحاح 11 من التكوين فيتعين أن دعوة إبراهيم كانت من حاران لأنه من حاران خرج إلى أرض كنعان.
وقد اشتهر حرّان بأنه بلد الصابئة وفيه هيكل عظيم للصابئة، وكان قوم إبراهيم صابئة يعبدون الكواكب ويجعلون لها صورًا مجسمة.
والاستفهام في قوله تعالى: {ما هذه التماثيل} يتسلط على الوصف في قوله تعالى: {التي أنتم لها عاكفون} فكأنه قال: ما عبادتكم هذه التماثيل؟.
ولَكِنه صيغ بأسلوب توجه الاستفهام إلى ذات التماثيل لإبهام السؤال عن كنه التماثيل في بادىء الكلام إيماء إلى عدم الملاءمة بين حقيقتها المعبر عنها بالتماثيل وبين وصفها بالمعبودية المعبر عنه بعكوفهم عليها.
وهذا من تجاهل العارف استعمله تمهيدًا لتخطئتهم بعد أن يسمع جوابهم فهم يظنونه سائلًا مستعلمًا ولذلك أجابوا سؤاله بقولهم {وجدنا آباءنا لها عابدين}؛ فإن شأن السؤال بكلمة مَا أنّه لطلب شرح ماهية المسؤول عنه.
والإشارة إلى التماثيل لزيادة كشف معناها الدال على انحطاطها عن رتبة الألوهية.
والتعبير عنها بالتماثيل يسلب عنها الاستقلال الذاتي.
والأصنام التي كان يعبدها الكلدان قوم إبراهيم هي بَعْل وهو أعظمها، وكان مصوغًا من ذهب وهو رمز الشمس في عهد سميرميس، وعبدوا رموزًا للكواكب ولا شك أنهم كانوا يعبدون أصنام قوم نوح: ودًّا، وسُواعًا، ويغوثَ، ويعوقَ، ونسرًّا، إما بتلك الأسماء وإما بأسماء أخرى.
وقد دلت الآثار على أن من أصنام أشور إخوان الكلدان صنمًا اسمه نَسْروخ وهو نَسْر لا محالة.
وجعْل العكوفِ مسندًا إلى ضميرهم مؤذن بأن إبراهيم لم يكن من قبل مشاركًا لهم في ذلك فيعلم منه أنّه في مقام الرد عليهم، ذلك أن الإتيان بالجملة الاسمية في قوله تعالى: {أنتم لها عاكفون} فيه معنى دوامهم على ذلك.
وضمن {عاكفون} معنى العبادة، فلذلك عدّي باللام لإفادة ملازمة عبادتها.
وجاءوا في جوابه بما توهّموا إقناعه به وهو أن عبادة تلك الأصنام كانت من عادة آبائهم فحسبوه مثلَهم يقدس عمل الآباء ولا ينظر في مصادفته الحق، ولذلك لم يلبث أن أجابهم: {لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين} مؤكدًا ذلك بلام القسم.
وفي قوله تعالى: {كنتم في ضلال} من اجتلاب فعل الكون وحرف الظرفية، إيماءٌ إلى تمكنهم من الضلال وانغماسهم فيه لإفادة أنّه ضلال بَواح لا شبهة فيه، وأكدَ ذلك بوصفه بـ {مبين}. فلما ذكروا له آباءَهم شرّكهم في التخطئة بدون هوادة بعطف الآباء عليهم في ذلك ليعلموا أنهم لا عذر لهم في اتّباع آبائهم ولا عذر لآبائهم في سن ذلك لهم لمنافاة حقيقة تلك الأصنام لحقيقة الألوهية واستحقاق العبادة. اهـ.